ثقــب الأوزون الثقافــي فــي العــراق

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
14/09/2012 06:00 AM
GMT



(1)

منذ حادثة الروائي بريطاني الجنسية سلمان رشدي بهدر دمه بفتوى من الإمام الراحل آية الله الخميني بعد نشر روايته ( آيات شيطانية) ومنذ أن فجّرت جماعة طالبان تماثيل بوذا التاريخية في أفغانستان، بدا واضحاً أن هناك نوعاً من التطرف الديني لا يتسامح أو يتساهل أمام ما يعتقده ثوابت مقدسة قارّة لا يمكن التجاوز على قدسيتها مهما كان الإسم الذي يقف وراء ذلك التجاوز. وقتها تحدثت الثقافة العربية والعالمية عن مثل هذا النوع من الصراع بين المثقف والسلطة الدينية المقفلة على أفكار معروفة والتي تبيح العقوبة الضارية لمثل هذه التجاوزات بحسب معتقداتها.ويومها انشغل المثقفون بمثل هذه الوقائع كثيراً أمام سلطات جديدة لها قوة النفاذ وقوة تضخيم الحادثة في مجتمعاتها على نحو كان يدعو للتوجس.
لم يكن الأمر عابراً على ما يبدو، فجذوة التطرف من اتجاهيه المعروفين كانتا واضحتين في المشهد الثقافي العام، وإن لم تكن الظاهرة مستشرية وقتها إلا أنها كانت تخفي في عناصرها الكثير مما يمكن له أن يكون ظاهرة في أية حاضنة تكون بمنزلة البداية لسلوك جديد يطارد الحريات الفردية ويفتح النار على خصوم وهميين يشتغلون في حقل الجمال لا حقل الألغام. والحاضنة لا بد من أن تكون سياسية فمنها تنطلق ألغام العصر الجديد.
وكانت الثقافة العربية والإسلامية ربما كانت تنظر الى أن هذه حوادث فردية لم تتكرر في المكان ذاته أو في مكان آخر في الفترة الزمنية ذاتها أو ما تلاها، غير أن هذه الإشارة الحمراء وجدت لها وقعا مختلف الأهواء بين الأقلام الثقافية، فيها من الحذر والتوجس أكثر مما فيها من القبول، فالأمر متعلق بالحريات الفردية من جهة والجماليات التاريخية والحضارية من جهة أخرى، وكلا العصفورين سقطا بفتوى ومِعول، وكأنما مقولة سارتر «ان من أولى مهمات المثقف هي إزعاج السلطة» ذهبت مع هذا المد الجديد الذي يبتعد عن لغة الحوار ويؤسس لثقافة لا تنسجم مع عصر الحريات. وبات معكوس المقولة السارترية كأنه يريد أن يسود في الحواضن التي تلت تينك الحادثتين.

(2)

قد يصح هذان المثالان البارزان؛ وهما ليسا عربيين من طرفيهما المتطرفين ؛ لكنهما يقعان ضمن المحيط الإسلاموي بشقه المباشر؛ أن يكونا استباقاً لما يحصل الآن من مد جديد أنتجته الثورات العربية بربيعها الغامض وأن يكونا دليلاً أوليا لما سيأتي من أحكام لها جهوزية التطبيق في أي مكان خرج من رحم تلك الثورات على أساس طابعه الديني الإسلاموي وليس على أساس مذهبه وطائفته وهذا حصر للقصة كلها، فالأحكام في هذا المجال متطابقة ولا مفر من فهم آلياتها بشكل واضح.ولكن هذا يقودنا الى الثقافي في جلباب السياسي الذي مهّد لانفتاح وانغلاق في آن واحد ؛ انفتاح الأزمة الجماعية والخروج من ربقة الديكتاتورية بفرضية الوصول الى محيط أكثر نقاهة، وانغلاق محتمل على ما يريده الإسلاموي الذي وصل الى السلطة على أشلاء من سبقه ويوطّد صلته بالعامة عبر آليات مفهومة واستبعاد المثقف المتنور صاحب القضية الجمالية. وليس أمامنا من هذه التجربة سوى ما تمخضت عنه الثورات العربية من نتائج يصح لنا هنا أن نقول أنها أنتجت جملة من الأسئلة المثيرة ليس أقلها : مَن صادر جوهر هذه الثورات ! وكيف تحولت نغمة الديموقراطية التي كان الشعب العربي يسعى إليها منذ عقود الى نغمة ضاغطة بطريقة مغايرة لِما كنا نتأمله من انفتاح حياتي جديد على مستجدات العصر! وكيف انقلبت معادلة الحياة المدنية المأمولة الى حياة مدنية بسؤال ذي استفهامات كبيرة : كيف حدث هذا ؟ ولماذا حدث هذا ؟ وكيف ستمضي حياة، ما بعد الثورات، وهي تلتفت الى الوراء كثيرا !
ليست هذه أسئلة فردية بقدر ما هي أسئلة صاغتها جماهير الثورات ذاتها حينما وصلت الى مفترق طرق في تثمينها لنتائج انقلاباتها المضنية وصراعها المرير مع طغاتها المستبدين في مصر واليمن وتونس وليبيا والآن في سوريا، باستثناء العراق الذي خرج عن سرب الثورات بطريقة الاحتلال المخزية والمعروفة.
وعلى وفق هذا التصور الأولي، ومن دون حساسيات سياسية أو دينية نقول لا توجد اليوم طريقة لمحاكاة الواقع العربي الجديد إلا من هذه البوابة السياسية العريضة وهذه الواجهة الإسلاموية التي اكتسبت شرعيتها أيضاً عبر صناديق اقتراع ما بعد الثورات في مفارقة غريبة من نوعها ! وما من طريقة أخرى تحاكي الأدب العربي اليوم إلا عن طريق هذا الثقب الأوزوني الواسع الذي أورثته ثورات الربيع العربي في إلباس المجتمعات العربية جلباب الدين الجديد وتوريث حكوماتها الفيسبوكية التي جاءت على قطار الفيسبوك العربي في ثوراته السريعة التي أطاحت بعروش الديكتاتوريات.ومن ثم التحول السريع الى محاولة إيجاد طرق شتى في أسلمة المجتمعات والمضي بها الى المجهول في العالم العلماني المعولم.

(3)

في ما يبدو سيكون من ثوابت أسلمة الأدب العربي هو (التزامه) بالعقيدة الإسلامية وعدم الخروج على منهاجها رؤى وتطبيقا بهدف بناء المجتمعات العربية وتكريس الشخصية الإسلامية في أدب عقائدي واسع النوايا وزرع القيم الدينية بكل طريقة ممكنة، ولا اعتراض على هذا فالمجتمعات العربية إسلامية النزعة والهوى والأصالة، وليس لأحد فضلٌ عليها في ترتيب بيتها الديني والإسلامي، لا من اليمين المتطرف ولا من يساره،والموضوع في زاويته الثقافية والأدبية لا يستوجب كل هذا الزخم السلطوي لتعبئة المجتمعات لـ محاربة الآخر الذي يفترق كليا أو جزئيا عن هذه النوايا المسبقة وليس لأحد من هؤلاء القدرة على تمثيل دور الإله والإمساك بتلابيب السماء وطيّها لغايات قد لا تكون هي الحل إذا لم تكن هي الفتنة بعينها..
في العراق قد يختلف الأمر قليلا أو كثيرا في شيوع هذه النزعة الإسلاموية لكن بطريقة مذهبية واضحة لا مفر من النظر إليها من هذه الزاوية كواقع حال أنتجه الاحتلال الأميركي وكرسته بعض الجماعات المتجهة الى فرز المجتمع العراقي على هذا المنوال الشائك والخطير بترتيب خارجي في بعض ظواهره الواضحة، والدخول الى هذا المجال المتشعب يضطرنا إليه باب السياسة الذي مهما اتسع فإنه يضيق على حلقات تبدو على خط واحد في أفكارها.
الإسلاموي السياسي العراقي الجديد وجد ضالته في ساحة بكر كانت مهجورة لعقود طويلة وكانت تشكو من (مظلومية) تاريخية بحسب شعاراته، فأنشأ قواعده في محيط معروف وتماهى معه الى حد إذابته ؛ وفي الطرف الثاني لهذا الإسلاموي الذي فوجئ بتغيير نمطية السياسي الذي اعتاده انغمس هو أيضا في الهامش السياسي وترك المتن الثقافي كتحصيل حاصل للصراع على سلطة فضفاضة توزعت بين الأجنحة بطريقة قيصرية شابها الكثير من العنف والتشاكلات المذهبية والسياسية.
لم تكن الثقافة بشرحها المستفيض علامة من علامات هذا الإسلاموي بشقيه المتنافرين والتي يمكن تأشيرها كموجِّه لجماهير عريضة،إنما تم تصريف طاقة هذا الثقافي الى مظان أخرى ليس أقلها وآخرها الإعلام (الثقافي) بمستوياته المباشرة المختلفة لخدمة أغراض السياسي المتلفع بعباءة الإسلاموي، هنا نجد أن الثقافة العراقية وبعد تسع سنوات من الاحتلال فهمت هذا الصراع البائس بين الأطراف المتحاربة والمتنازعة لن يوقف استمراريتها في العطاء المحلي، لا سيما بعد انتشار وسائل الإعلام المختلفة من صحف يومية تخطت الحد المعقول ومجلات أدبية وفضائيات أخذ الجانب الثقافي حيزا لا بأس به منها وما الى ذلك من محطات يمكن للثقافي أن ينفذ منها بطريقة ليست حرجة.
النظر الى التأثير الإسلاموي في الثقافة العراقية غير منظور تقريبا، فالإسلاموي انهمك في السلطة ومغرياتها وتداعياتها، ولم يلتفت الى هذا الجانب إلا من زاوية التعبئة الجماهيرية، وهي تعبئة لها مواسم معروفة كان النظام السابق يمنعها ويبطش بها، وخلال سنوات الإحتلال ما تزال الثقافة الإسلاموية بصريح عباراتها تتجه الى العامة عبر المنابر اليومية والموسمية، تثقيفاً وتعبئة، بغرض حصر الحالة السياسية تحت عباءتها، وإقصاء المناوئ الآخر بأية طريقة ممكنة تحت ثوابت معروفة أقصت الإسلاموي العام وحصرته بالخصوصية المذهبية حجة ودفاعا وتوجهاً وملاذاً متخيلا. فيما كان الآخر يتصيد هو أيضا في مساحاته المكشوفة ضمن البودقة السياسية لكن في إطار اسلاموي مغلف تحت واجهات وعناوين شتى.

(4)

سنقول سلفاً ان الإسلامويين الذين غزوا العراق بعد 2003 هم جماعات متنوعة من السلفيين ومتطرفي القاعدة والسنّة والشيعة وجماعات تكفيرية منشؤها السعودية على وجه التحديد، وأقاموا مشهدا مشتبكا ومتشابكا ومعقدا الى حد بعيد راح ضحيته الكثير من المبدعين والمثقفين وأكاديميي الجامعات وعلمائها والأطباء والمتميزين في تخصصاتهم العلمية والوظيفية وما الى ذلك من شرائح، وفي قراءة هذه الصفحات المؤلمة حقا لا يجد الدارس مسوغات تجعل من القتل وسيلة من وسائل التمسك بالسلطة والحث عنها وراء نافورات الدماء، أو الإطاحة بسلطة مذهبية لإبدالها بسلطة مذهبية أخرى تنتهج من القتل وسيلة من وسائل الحصول على مكاسب سلطوية دنيوية، لذلك دفع أدباء وإعلاميو العراق أثماناً باهظة جدا في هذا الخليط المذهبي أدى الى قتل العشرات بل المئات منهم، فليس آخرهم المسرحي هادي مهدي ولا أولهم كامل شياع ولا بينهما الشعراء رعد مطشر مسلم وأحمد آدم وشهاب التميمي وفليّح مجذاب والإعلامية أطوار بهجت.. والقائمة تطول وتؤلم.
تأميم الثقافة بهذه الوسائل الجاهلية أنتج صدعاً نفسيا لدى الأغلبية الصامتة من الأدباء والفنانين والصحفيين العراقيين الذين كانوا وما زالوا عرضة لأهواء الجماعات المسلحة بالرغم من توفر حد معين من الأمن وشيوع مرافق إعلامية وثقافية وصحافية حاولت أن تكون الصوت الآخر المناوئ لسلطة القمع الإسلاموية في تفرعاتها وتسمياتها المتعددة التي أوجدت شروخا عميقة في البنية الفكرية الأساسية في العقل المثقف وهو يواجه هذا النوع من التهديد المباشر الذي لا يؤمن بالحوار والجدل العلمي والمعرفي والإنساني.
الجانب المحلي الآخر، وجزء منه وافد الى الشكل الاجتماعي العام، هو شيوع ثقافة اسلاموية تنظر الى المنجز الحسيني كطريقة أخيرة لتثبيت ثقافة ذات شق واحد واتجاه واحد، لذلك شاع نظم الأناشيد والقصائد المناسباتية في هذا الجو العام، فيما ابتعدت الرواية والقصة عن هذا التأثير بسبب طبيعتها الفنية التي لا تتناسب وحجم الحالة، ومع أن هذه الثقافة عريقة في الجسد العراقي، إلا ان نظام صدام تمكن من إقصائها أكثر من ثلاثة عقود، لتجد حاضنتها أخيرا في جو انفتح عليها كليا، ونحسب ان هذه الثقافة برموزها المعروفة أوجدت لها صيغا مختلفة في التأثير الاجتماعي والثقافي العامي، تمهيدا للسياسي المقبل تحت خيمة الانتخابات، وهذا ما لا يمكن تجاوزه عمليا بسبب متانة بنائه التاريخي وقوة تأثيره على الأجيال المتعاقبة، لهذا نجد بشكل جلي أن هذا النوع الشائع الآن ابتعد عن الثقافة العامة وجمالياتها. ولم يحاصرها تماما لكنه يريد أن يكون في الصدارة الثقافية وهذا لن يتحقق بطبيعة الحال، فالثقافة العراقية بعمومها لم تكن موسمية ولا مذهبية في أي فترة من فتراتها الزمنية.

(5)

مشكلة المثقف العراقي والسلطة الحاكمة قديمة لا مجال لتفصيلها فهي متشابهة مع المنظومة العربية القديمة برموزها المعروفة، وهي مشكلة تؤشر دائما سلبية هذا المثقف وانكفائه وعزلته عن ميدان السياسة وخضوعه الى شروط السلطة الفاعلة في قسوتها وسطوتها، والغريب أن هذا المثقف المتواري كان عليه أن يأخذ زمام المبادرة بعد 2003 في انفتاح سريع خلق فوضى شاملة في البنية الاجتماعية والثقافية والفكرية غير أنه بقي على سلبيته بل أفرط بها فترك الباب مفتوحا الى غيره من أشباه المثقفين الذين جاءوا تحت شعارات اسلاموية فضفاضة هدفها إرباك الجميع وعزل من يجب عزله من جديد لتسيد المشهد العام من أبواب مختلفة، في ملاحظة ممكنة جدا هي أن هذه الجماعات غير عابئة أساساً بالمثقف والأكاديمي والصوت الحر، فهي تعرف وتدرك فاعليته المحدودة وعزلته السلبية وخوفه المستمر من السلطة، وكي تزيد في إمعانه وإذلاله رفعت شعارات التكفير والتخوين ولجأت الى القتل كأسلوب دموي فاعل جدا في إقصاء الجميع من المشهد السياسي والثقافي وتحجيم الأدوار الى الحد الممكن.